تقريرات القرآن الكريم لعبودية المسيح عليه السلام

الحمد لله رب العالمين القائل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك مِنْ رَسُول إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَه إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:25]، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وخاتمهم، الذي بشر به رسول بني إسرائيل، عيسى بن مريم عليهما السلام، وعلى آله وصحبه وسلم  وبعد،

فأرسل الله عيسى ين مريم u إلى بني إسرائيل مصدقا لما بين يديه من التوراة، وداعيا إلى عبادة الله وحده، فالنبي عيسى u  هو آخر الأنبياء قبل نبينا محمّد ﷺ.

وأخبر الله تعالى في القرآن عن حاله قبل أن يولد في آيات بينات، قال تعالى في سورة آل عمران:﴿إذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ ۖ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا ۖ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا ۖ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.

خلق الله تعالى عيسى ابن مريم u بكلمة منه، فحملت به أمه دون أب، لحِكمةٍ أرادها الله تعالى. وتكلم في المهد، مبرئا نفسه ووالدته من دعاوى اليهود والنصارى، فبرأ نفسه من أن يكون إلها أو ابن إله، كما ادعى النصارى، وإنما هو عبد لله.

وبرأ نفسه مما ادعاه اليهود فيه أنه ساحر كذاب، فبين أنه نبي من أنبياء الله. وبرأ أمه من أن تكون بغيا، كما لمزها بذلك اليهود.

فبين أنه خلق فيها من دون أب، والله تعالى لا يعجزه شيء، فقال مؤكدا ذلك: ﴿وبرا بوالدتى ولم يجعلنى جبارا شقيا﴾ [مريم: 32]، فذكر والدته ولم يذكر له أبا، بخلاف ما حكاه الله تعالى عن يحي بن زكريا عليهما السلام، حين قال: ﴿وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا﴾ [مريم:14].

كما أن سياق كلامه كله، وتكلم أساسا بمعجزة لتبرئة أمه من دعوى اليهود. قال تعالى في سورة مريم: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا﴾

وأجرى الله على يديه آيات بينات، وأنزل الله عليه كتابا هو الإنجيل، وآمن به الحواريون، وكفر به اليهود حسدا وعنادا.

قال تعالى:﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا ۖ وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ ۖ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي ۖ وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي ۖ وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ، وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ﴾  [ المائدة 110-111]

صبر عيسى ابن مريم u على أذى اليهود، وحقق عبوديته لله، وفي كل مرة كان يذكرهم بموقفه من موسى u، وأنه مصدق بالتوراة، ويعظهم ويذكرهم بالله تعالى، قال تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ۚ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [آل عمران:50]

وكان اليهود يتربصون به، وتآمروا على قتله، وأوحى الله إليه أنه سيرفعه إليه. قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [آل عمران:55] .

وشبه لهم وللنصارى، وظن اليهود أنهم قتلوه، وصدق ذلك النصارى، ونفى الله ذلك كما قال تعالى في سورة النساء: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا، بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾

فعيسى  uلم يُصلب ولم يُقتل، وإنّما رفعه الله إلى السّماء. وسينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، فيكسر الصليب، ويقتل الدجّال، كما ورد في الأحاديث النبويّة، حيث قال النبي ﷺ: “والذي نفسي بيدِه، ليُوشكنَّ أن ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكماً مقسطاً، فيكسرُ الصليبَ، ويقتلُ الخنزيرَ، ويضعُ الجزيةَ، ويفيضُ المالُ حتى لا يقبلَه أحدٌ”

هذه عقيدة أهل السنة والجماعة في عيسى u، رسول لبني إسرائيل، من أولى العزم من الرسل، حقق العبودية الكاملة الحقة لله تعالى، كمن سبقه من الرسل والأنبياء جميعا عليهم السلام. فهذا ما قرره القرآن الكريم، كما سيأتي تفصيله.

وهذا البحث فيه رد على دعاوى النصارى في أن القرآن الكريم قرر لاهوت المسيح وناسوته، واستدلالاتهم الخاطئة المبنية على خلط وجهل بالمعاني، مثل معنى الكلمة والروح الواردة في خلق عيسىu، في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ ۖ﴾، حيث زعم يوحنا الدمشقي في الحوار المفترض بين مسلم ونصراني، أن يقول النصراني للمسلم: ماذا يدعى المسيح في كتابكم؟….فيقول: في كتابي يدعى المسيح روح الله وكلمته. عندئذ قل له من جديد: روح الله والكلمة بحسب كتابك هل هما غير مخلوقين أم مخلوقان؟ فإذا قال لك إنهما غير مخلوقين، قل له: ها إنك توافقني في الرأي، لأن من لم يخلقه أحد، بل من يخلق كل الأشياء إنما هو الله. أما إذا تجرأ على القول بدون تحفظ إنهما مخلوقان، فقل له: من خلق إذا روح الله وكلمته؟ فإذا ما ارتبك وقال: إن الله هو الذي خلقهما، … فقل له: “قبل أن يخلق الروح والكلمة هل كان الله بدون روح وبدون كلمة، فعندها يهرب منك، إذ ما من شيء عنده ليجيبك به.

   وهذه الشبهة ألقاها نصارى نجران بين يدي النبي ﷺ، فقالوا: ” ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ فقال: بلى. قالوا: فحسبنا. فأنزل الله عز وجل: ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ [آل عمران:7]

   ولهذا كان الدافع لكتابة هذا البحث بيان تقرير القرآن الكريم في دحض هذه الدعاوى، والتأكيد على أن عيسى عبد لله تعالى ورسوله، وأنه بشر من البشر، حقق العبودية الكاملة لله عز وجل، ورفعه الله إليه، وسينزل آخر الزمان، وسيجري عليه ما يجري على البشر عموماً من الموت والبعث، بما يدحض دعاوى النصارى بألوهية المسيح u.

   وقد جعلت عنوانه: تقريرات القرآن الكريم لعبودية المسيح u.

وذلك أن تقرير العبودية من أعظم العقائد، فهي غاية وجود الإنسان، وأساس دعوة الرسل عليهم السلام؛ ويتبين منه أن المسيح u عبد من عبيد الله الكمل، وليس إلها ولا ابن إله.

   وقد جعلت البحث في مقدمة وتمهيد وستة مباحث وخاتمة على النحو التالي:

   تمهيد: في بيان معنى العبودية والتعريف بالمسيح u من خلال القرآن الكريم.

   المبحث الأول: إثبات عبودية المسيح باعتبار خلقه بكلمة الله وروحه.

   المبحث الثاني: عبودية المسيح u باعتبار التصريح بعبوديته لله تعالى.

   المبحث الثالث: عبودية المسيح u باعتبار البشرية.

   المبحث الرابع: عبودية المسيح u باعتبار الرسالة وتحقيق العبودية.

   المبحث الخامس: عبودية المسيح uباعتبار قبضه ورفعه إلى السماء.

   المبحث السادس: عبودية المسيح u باعتبار نزوله وموته.

وخاتمة في نتائج البحث.

والله أسأل أن ينفع بهذا العمل، وأن يجعله علماً نافعاً وعملاً خالصاً متقبلاً.

 

لتحميل البحث اضغط هنا