(مفاهيم خاطئة في الوسطية) بين الإفراط والتفريط (رؤية في ضوء الإسلام)

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد.

فإن الوسطيَّةَ من خَصائصِ هذه الأُمَّة، وامتن الله على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطاً، قال تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَٰكُمۡ أُمَّةٗ وَسَطٗا لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيۡكُمۡ شَهِيدٗاۗ وَمَا جَعَلۡنَا ٱلۡقِبۡلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيۡهَآ إِلَّا لِنَعۡلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيۡهِۚ وَإِن كَانَتۡ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَٰنَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾  [البقرة: ١٤٣] وهذه الوسطية هي سببُ خَيْريَّتِها، ولا تزالُ الأُمَّةُ بخَيْرِ ما حافَظَتْ على هذه الخَاصيَّةِ التي تتميَّزُ بها:تلك الخاصية التي تُمثِّلُ الاعتدالَ والاستقامةَ على صِراطِ اللهِ عزَّ وجلَّ. قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: ١١٠].

فإِذا خرَجتْ عن الوسَطِ إلى أحَدِ جانِبَيْه ففرّطَتْ أو أَفْرَطَتْ فقد هلَكت، فإِنَّ التَّطرُّف مَهْلَكة، وهو لا يخْتَصُّ بالغُلُوِّ والإفْراط، وإٍنَّما الغُلُّوُ والإفْرَاطُ: كلاهما تطرُّف، كما أن التَّقْصِيرُ والتَّفرِيطُ تَطرُّفٌ أيضاً.

وأحكام الإسلام كلها مبنية على الاعتدال والتوسط، فالَّذِي يُفَرّط في حِقِّ اللهِ ويُقْصِّرُ في القِيَام به مُتَطَّرِّف. كما أَنَّ الذي يتطَّرف إلى جِهَةِ الغُلُوِّ والتَّشدُّد والتَّزمُّت، ويُوجِبُ ما لَيْس بواجب، ويُحَرِّم ما لَيْسَ بمحرَّم، ويكفِّر المسلمينَ ويُفَسِّق الصَّالحين، يكون مفرطا أيضاً.

وجاءت الآيات الكريمة لتبين ضرورة التوازن بين رغبات الدنيا ومطالب الآخرة، وحتمية الاعتدال التوسط، قال سبحانه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: 77] ·

  وفي باب النفقة يقول جل شأنه: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]

   وحياة نبينا صلوات الله وسلامه عليه تمثل التوسط والاعتدال في جميع أمور حياته ومعاشه، وتؤكد أن الوسطية لا تشمل العقائد فقط، بل سائر أحكام الشريعة، عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: كنت أصلي مع رسول الله r فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً”

   والوسطية منهج وسلوك يمتثل في جميع الأحوال، والحيدة عن ذلك توقع صاحبها إما في البعد عن منهج الدين الحق، بالاستهانة بواجباته، تهوينا وتفريطاً، وتبرير الوقوع في المحرم، أو تتبع الرخص، بل ربما تمييع الدين بتبريرات باطلة، وتأويلات منكرة، بغير حق.

   فما بين الشدة والغلو والفهم والتأويل الخاطئ زورا وبهتانا للنصوص الواردة في ذلك، أسقط أناس الوسطية على مفهوم التيسير والتسهيل في نظرهم، وتمييع الدين، كل ذلك باسم الوسطية.

   إن الوسطية لا تعني تمييع الدين، والتساهل فيه، والتخفف من واجباته، والتنازل عن ثوابته، وإنما هي التزام بمضمون الدين وجوهره، وتعامل واستفادة مع مستجدات العصر، بما لا يتعارض مع ثوابته وأصوله. ﴿وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ بعد أن قال جل وعلا: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: ١٨٥].

   هذا ملخص لموضوع البحث المعنون (مفاهيم خاطئة في الوسطية) بين الإفراط والتفريط (رؤية في ضوء الإسلام) في مقدمة وتمهيد: فيه مختصر في بيان مفهوم الوسطية، والمفاهيم الخاطئة في فهم هذا المصطلح. ومبحثين: الأول: في عرض بعض المفاهيم الخاطئة الواردة في الوسطية، بين الغلو والإفراط، والتهوين والتفريط، والشبه في ذلك، والمبحث الثاني: في المنهج في علاج تلك المفاهيم، وخاتمة في أهم النتائج والتوصيات..

  أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه سبحانه، وأن تسهم نتائج الأبحاث المقدمة في التحقيق الفعلي لهدف هذه الندوة وتطلعاتها، وتلبي احتياجات المجتمع في ضوء تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

1 هذا جزء من حديث خطبة الحاجة؛ أخرجه أحمد (1/392)، والدارمي (ح2202)،  وأبو داود (ح2118)، وغيرهم.

 رواه البخاري، كتاب: الجمعة،  باب: ما يكره من التشديد في العبادة،  رقم: (1082)،  ومسلم،  كتاب: صلاة المسافرين وقصرها،  باب: أمر من نعس في صلاته أو استعجم عليه القرآن،  رقم: (1306

 

لتحميل البحث اضغط هنا